فصل: غلط البصر من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المناظر (نسخة منقحة)



.الفصل السابع: كيفيات أغلاط البصر التي تكون في القياس:

كيفيات أغلاط البصر التي تكون في القياس بحسب كل واحدة من العلل التي من أجلها يعرض للبصر الغلط.
قد تبين في المقالة الثانية أن أكثر المعاني التي تدرك بحاسة البصر إنما تدرك بالقياس، وتبين ما هي المعاني التي تدرك بالقياس. وقد تبين أن صور جميع المبصرات إنما هي مركبة من المعاني الجزئية. وأكثر أغلاط البصر في المعاني الجزئية وصور المبصرات إنما يكون غلطاً في القياس.
والغلط في القياس يكون على وجهين:
يكون في المقدمات ويكون في ترتيب القياس.
والغلط في المقدمات يكون على ثلاثة أوجه:
أحدها أن يأخذ التمييز مقدمة كاذبة ويظنها صادقة.
والثاني أن يأخذ مقدمة جزئية ويظنها كلية.
والوجه الثالث هو الغلط في اكتساب المقدمات. وذلك يكون في الإبصار إذا كان في المبصر معان ظاهرة ومعان خفية وقد يمكن أن تظهر عند استقصاء التأمل، واعتمد البصر ما يظهر في المبصر من المعاني التي فيه ولم يستقرئ جميع المعاني التي فيه ولم يتأمله تأملاً محققاً، إما على طريق السهو وضعف التمييز وإما لأنه لا يتمكن في الحال من تأمله. وإذا لم يستقرئ البصر جميع المعاني التي في المبصر التي يمكن أن يدركها البصر واعتمد المعاني الظاهرة التي في المبصر وحكم بنتائجها وقطع بنتائجها فهو غالط فيما يدركه من نتائج تلك المعاني. وذلك لأن البصر إذا تأمل المبصر تأملاً محققاً، وأدرك المعاني المحققة التي لم يكن أدركها، كانت نتيجة المعاني التي يظهرها التأمل المحقق مع المعاني الظاهرة غير النتيجة التي تنتجها المعاني الظاهرة فقط. وإذا لم يتمكن البصر من تأمل المبصر التأمل المحقق، وأحس بأنه ليس يتمكن من تأمله، فإنه لا يقطع بنتيجة المقدمات الظاهرة، بل يكون شاكاً غير متيقن لتلك النتيجة. فإن لم يستقرئ البصر جميع المعاني التي في المبصر ولم يتمكن من استقراء جميع المعاني التي في المبصر، وعول على المعاني الظاهرة، وسكن إلى نتائجها ولم يشك مع ذلك في نتائجها، فهو غالط في القياس من حيث هو غالط في اكتساب مقدمات القياس ومنتج ببعض المقدمات التي ينبغي أن تكون النتيجة بجميعها. وأغلاط البصر في القياس تمون على الوجوه التي فصلناها.

.غلط البصر من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال:

فأما كيف يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، إذا عرض الغلط في مقدار البعد، فكالأشخاص القائمة على وجه الأرض، مثل النخل والشجر والعمد، إذا أدركها البصر من بعد متفاوت مسرف التفاوت، وكانت تلك النخل والشجر والعمد مختلفة الأبعاد وكانت على سموت متفرقة بحيث لا يستر بعضها بعضاً، وكانت مع ذلك متشابهة الصور في اللون وفي الضوء المشرق عليها: فإن البصر إذا أدرك الأشخاص التي بهذه الصفة فإنه لا يدرك اختلاف أبعادها، ولا يفرق بين الأبعد منها والقرب إذا كان أقربها متفاوت البعد مسرف التفاوت. وإذا لم يفرق بين الأبعد منها والأقرب فإنه ربما ظن بتلك الأشخاص أو ببعضها أنها متساوية الأبعاد. وإذا ظن البصر بالمبصرات المختلفة الأبعاد أنها متساوية الأبعاد فهو غالط في أبعادها. والغلط في البعد وفي اختلاف البعد وفي تساوي الأبعاد فهو غلط في القياس لأن هذه المعاني إنما تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج أبعاد الأشخاص التي بهذه الصفة عن عرض الاعتدال. لأن الأشخاص التي بهذه الصفة إذا كانت على أبعاد معتدلة فإن البصر يدرك اختلاف أبعادها على ما هو عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه الأشخاص في عرض الاعتدال.
وإنما ليس يدرك البصر اختلاف هذه الأشخاص من البعد المتفاوت لن الأبعاد المتفاوتة ليس يدرك البصر مقاديرها إدراكاً محققاً، وإذا لم يتحقق مقادير الأبعاد لم يدرك تفاضل بعضها على بعض، وإذا لم يدرك تفاضل بعضها على بعض، ولم تكن المبصرات يستر بعضها بعضاً، لم يفرق البصر بين الأبعد منها والأقرب. وهذا الغلط بعينه يعرض للبصر دائماً إذا نظر إلى الكواكب واتفق أن يكون فيها كوكب من الكواكب المتحيرة، فإذا أدرك الكوكب من الكواكب المتحيرة والكوكب من الكواكب الثابتة معاً فإنه لا يدرك الاختلاف الذي بين بعد الكوكب المتحير وبين أبعاد الكواكب الثابتة، وإنما يدركها كأنها جميعها في سطح واحد، المتحيرة منها والثابتة، مع الاختلاف المتفاوت بين أبعاد الكواكب الثابتة والمتحيرة. وإنما يعرض للبصر هذا الغلط لتفاوت أبعاد الكواكب، لأن الأبعاد المتفاوتة ليس يدرك البصر مقاديرها ولا يدرك زيادة بعضها على بعض، ولأن البصر إنما يدرك أبعاد المبصرات إذا كانت أبعادها من الأبعاد المعتدلة وكانت مع ذلك مسامتة لأجسام مرتبة. فإذا كانت المبصرات متفاوتة الأبعاد، ولم يستر بعضها بعضاً، فليس يدرك البصر مقادير أبعادها، كانت أبعادها مسامتة لأجسام مرتبة.
الوضع وقد يعرض للبصر الغلط في أوضاع المبصرات أيضاً من أجل خروج البعد عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا نظر إلى مبصر متفاوت البعد، وكان ذلك المبصر مائلاً على خطوط الشعاع ولم يكن مواجهاً، فإن البصر يدركه كأنه مواجه ولا يحس بميله. ولذلك صار البصر يدرك الجسم المربع الشكل المتساوي الأضلاع من البعد المتفاوت مستطيلاً، ويدرك الجسم المستدير المسطح مستطيلاً، إذا كانا مائلين على خطوط الشعاع. ولو كان البصر يحس بميل المربع والمستدير من البعد المتفاوت إذا كانا مائلين على خطوط الشعاع لأحس بتساوي أضلاع المربع واستدارة المستدير من البعد المتفاوت. وهذا الغلط هو غلط في القياس لأن وضع المبصر يدرك بالقياس، وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. لن المربع والمستدير إذا أدركهما البصر من بعد معتدل فإنه يدرك تربيع المربع ويدرك استدارة المستدير على ما هما عليه وإن كانا مائلين على خطوط الشعاع، إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
فأما لم يدرك البصر المبصر المائل من البعد المتفاوت مواجهاً، ولم يدرك المربع المتساوي الأضلاع والمستدير مستطيلين، فإن ذلك لن الميل إنما يدركه البصر من إحساسه باختلاف بعدي طرفي المبصر المائل. فإذا أحس البصر باختلاف بعدي طرفي المبصر المائل أحس بميله، وإذا لم يحس باختلاف بعدي طرفي المبصر المائل فليس يحس بميله. وإذا كان بعد المبصر متفاوتاً بالقياس إلى عظم المبصر وكان المبصر مائلاً كان التفاوت بين بعدي طرفيه يسير المقدار عند جملة البعد. إذا كان التفاوت يسير المقدار عن جملة البعد لم يدرك البصر ذلك التفاوت، وإذا لم يدرك التفاوت الذي بين بعدي طرفي المبصر ظن أن أبعاد أطرافه متساوية، وإذا ظن أن أبعاد أطرافه متساوية ظنه مواجهاً ولم يحس بميله.
فأما المربع المتساوي الأضلاع إذا كان على بعد متفاوت، وكان مائلاً على خطوط الشعاع، فإن الزاوية التي يوترها عرض المربع الذي هو العرض المائل تكون أصغر من الزاوية التي يوترها طوله المواجه. وكذلك المستدير إذا كان مائلاً، وكان بعده متفاوتاً، يكون قطره المائل يوتر زاوية عند البصر أصغر من الزاوية التي يوترها قطره المواجه. وإذا كان البعد متفاوتاً لم يحس البصر باختلاف بعدي طرفي العرض المائل، وإذا لم يحس باختلاف بعدي طرفي العرض المائل فإنه يظن أن بعدي طرفي العرض المائل متساويين. وإذا كان ذلك كذلك فهو مقدار عرض المربع المائل وقطر المستدير المائل بالقياس إلى زاوية أصغر من الزاوية التي يوترها الطول المواجه، فلذلك يدرك العرض أصغر من الطول. فإذا أدرك العرض أصغر من الطول أدرك المربع المتساوي الأضلاع مستطيلاً والمستدير أيضاً مستطيلاً، فيعرض للبصر من غلطه في وضع المبصرات التي بهذه الصفة الغلط في شكلها أيضاً والغلط في مقدار عرضها مع الغلط في وضعها. وإذا كانت هذه المبصرات على بعد معتدل أدرك البصر اختلاف أبعاد أطرافها. وإذا أدرك اختلاف أبعاد أطرافها أدرك ميلها على ما هي عليه، وأدرك أشكالها على ما هي عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه المبصرات في عرض الاعتدال.
وقد يدرك البصر المبصرات التي بهذه الصفة من البعد الذي ليس بكل المتفاوت أيضاً مستطيلة ويحس مع ذلك بميلها، وذلك إذا كان المربع أو المستدير مائلاً ميلاً شديداً. إلا أن ذلك يعرض إذا لم يدرك البصر مقدار ميله إدراكاً محققاً، فيدرك ميله دون ما هو عليه من الميل، فيحس بمقدار العرض المائل بحسب ما يدركه من ميله. وإذا كان ما يدركه من ميله دون ميله الحقيقي أدرك مقداره دون مقداره الحقيقي، وإذا أدرك مقدار العرض دون مقداره الحقيقي، وأدرك طوله المواجه على ما هو عليه، أدرك المربع المتساوي الأضلاع مستطيلاً والمستدير أيضاً مستطيلاً مع إحساسه بميلهما. إلا أن الذي يعرض من الغلط في هذه الأشكال مع إحساس البصر بميلها إنما يكون يسيراً ليس كما يعرض من البعد المسرف التفاوت، فيدرك في هذه الأشكال، إذا كان يحس بميلها، استطالة يسيرة دون ما يدركه من استطالتها من البعد المسرف التفاوت بحسب التفاوت بين ميله الحقيقي وبين ما يظهر له ويحس به من ميله.

.التجسم:

فأما التجسم فإن البصر يحس به من إحساسه بانعطاف السطوح كما تبين من قبل. والإحساس بانعطاف سطوح الجسام هو إحساس بمائية سطح الجسم، فالغلط في التجسم إن عرض فهو إنما يكون من أجل الغلط في هيئة سطح الجسم. لأن الغلط في التجسم إنما يكون إذا أدرك البصر المبصر المسطح محدباً، وإذا أدرك البصر المسطح محدباً أو أدرك المحدب مسطحاً فإنما هو غالط في هيئة سطح ذلك المبصر. وهيئة السطح إنما هو شكل جملة السطح، لأن شكل السطح يكون على جهتين: فإحداهما شكل محيط السطح والأخرى شكل جملة السطح الذي يسمى هيئة السطح. وإذا كان ذلك كذلك فالغلط في التجسم يدخل تحت الغلط في الشكل مع الغلط في الوضع من أجل تفاوت البعد، فقد يعرض الغلط في شكل المبصر أيضاً من أجل تفاوت البعد وإن لم يعرض الغلط في وضعه. وذلك أن الجسم الكثير الأضلاع المتساوي الأقطار إذا كان على بعد متفاوت وكان مواجهاً للبصر فإن البصر يدركه مستديراً، وإذا أدرك الجسم المضلع مستديراً فهو غالط في شكله، والغلط في الشكل والهيئة إذا كان على بعد متفاوت فهو غلط في القياس. لأن الشكل والهيئة إذا كانا على بعد معتدل وكان من الأشكال المألوفة فقد يدركه البصر بالمعرفة، واصل إدراكه بالقياس. وإذا كان على بعد متفاوت فليس يدرك إلا بالقياس في حال الإحساس كان ذلك الشكل من الأشكال المألوفة أو من الأشكال الغريبة، لأن شكل المبصر من البعد المتفاوت ليس يدرك إلا بالتأمل في حال إدراك المبصر، وليس يدرك الشكل من البعد المتفاوت بالبديهة ولا بالأمارات، فالغلط في الشكل من البعد المتفاوت ليس يكون إلا غلطاً في القياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. لأن المبصر المضلع إذا كان على بعد معتدل فإن البصر يدرك شكله على ما هو عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي فيه في عرض الاعتدال.
فأما لم يدرك المضلع مستديراً من البعد المتفاوت فذلك لأن المبصر إذا بعد عن البصر بعداً شديداً خفي عن البصر، والبعد الذي يخفى منه المبصر يكون بحسب مقدار البصر، فالمبصر الصغير الحجم يخفى من بعد أصغر من البعد الذي يخفى منه المبصر العظيم الحجم. وكل واحد من أجزاء المبصر أصغر من جملة المبصر. فإذا تباعد المبصر تباعداً متفاوتاً كان المقدار الذي له نسبة محسوسة إلى جملة المبصر يخفى عن البصر من ذلك البعد، فيكون كل واحد من أجزائه الصغار على انفراده خفياً عن البصر. وإذا كان ذلك كذلك كان المبصر إذا كان على بعد متفاوت فإن البصر يدرك جملته ولا يدرك كل واحد من أجزائه الصغار على انفراده. وكل واحدة من زوايا المبصر المضلع أصغر من جملته، وهي مع ذلك متفرقة. فكل واحدة من الزوايا تخفى عن البصر من بعد قد يظهر منه جملة المبصر. فإذا كان المبصر متفاوت البعد، وكان بعده بعداً يخفى من مثله كل واحدة من زواياه على انفرادها، ولا تخفى جملته من ذلك البعد، وكانت أقطار ذلك المبصر مع هذه الحال متساوية أو قريبة من التساوي، فإن المبصر إذا كان على هذا البعد فإن جملته تظهر للبصر ولا يظهر شيء من زواياه. وإذا أدرك مواجهاً للبصر، أدركه البصر مستديراً مسطحاً كان أو مجسماً. فلهذه العلة صار البصر يدرك المبصر المضلع المتساوي الأقطار من البعد المتفاوت مستديراً إذا كان مواجهاً للبصر.
وكذلك أيضاً يعرض الغلط في تقويس الجسم من البعد المتفاوت. فإن الجسم المقوس إذا كان على بعد متفاوت، وكانت حدبته أو تقعيره تلي البصر، فإن البصر يدرك ذلك المقوس مستقيماً، لأن التقويس إنما يدركه البصر من إدراكه لاختلاف مقادير أبعاد أجزائه إذا كانت حدبته أو تقعيره تلي البصر. فإن أحس البصر أن وسطه وما يلي الوسط أبعد من طرفيه أحس بتقويسه وأحس أن تقعيره يلي البصر. فإذا كان المقوس على بعد متفاوت وكانت حدبته أو تقعيره يلي البصر. فإذا كان المقوس على بعد متفاوت وكانت حدبته أو تقعيره يلي البصر يدرك البصر التفاوت الذي بين بعد وسطه وبين طرفيه. وإذا لم يدرك التفاوت الذي بين أبعاد وسطه وطرفيه فليس يدرك تقويسه. وإذا لم يدرك تقويسه في الحال، ولم يكن قد تقدم علم الناظر بتقويسه، فليس يفرق بينه وبين الأجسام المستقيمة الطول المألوفة، واكثر الأجسام المألوفة المستطيلة تكون مستقيمة الطول أو قريبة من الاستقامة، فهو يدركه مستقيماً إذا لم يحس في الحال بتقويسه. وإذا أدرك البصر المقوس مستقيماً فهو غالط في شكله. والغلط في الشكل من البعد المتفاوت هو غلط في القياس، لأن الشكل ليس يدرك من البعد المتفاوت إلا بالقياس، وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر المقوس إذا كان على بعد معتدل فإن البصر يدرك تقويسه ولا يعرض له فيه غلط، كانت حدبته تلي البصر أو كان تقعيره يلي البصر، إذا كانت المعاني التي فيه في عرض الاعتدال.
الشكل وقد يعرض الغلط في شكل سطح المبصر أيضاً من أجل تفاوت البعد. وذلك أن الجسم الكري يظهر من البعد المتفاوت مسطحاً مستديراً، وكذلك جميع الأجسام التي فيها تحديب أو أجزاء مقعرة. ومتى اعتبر المعتبر جسماً من الأجسام المحدبة أو المقعرة من البعد المتفاوت فإنه يجده في الحس مسطحاً، وهذا الغلط هو غلط في القياس، لأن التحديب والتقعير والتسطيح يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصرات إذا كانت على أبعاد معتدلة وكانت محدبة أو فيها أجزاء محدبة أو كانت مقعرة أو فيها أجزاء مقعرة فإن البصر يدرك تحديبها أو تقعيرها على ما هو عليه إذا كانت المعاني الباقية التي فيها في عرض الاعتدال.
فأما لم يدرك البصر الكرة والأجسام المحدبة من البعد المتفاوت مسطحة، فلذلك لأن التحديب إنما يدركه البصر إذا أحس بقرب أجزائه المتوسطة وبعد أجزائه المتطرفة، وإذا لم يحس البصر بقرب بعض الأجزاء وبعد بعضها فليس يحس بتحديب المبصر. والكرة والأجسام المحدبة إذا كانت على بعد متفاوت بالقياس إلى حجمها فإن التفاوت الذي بين أبعاد أطرافها وبين وسطها يكون يسيراً بالقياس إلى جملة البعد. وإذا كان التفاوت يسيراً بالقياس إلى جملة البعد لم يدرك البصر ذلك التفاوت. وإذا لم يدرك البصر ذلك التفاوت بين أبعاد أطراف المبصر المحدب وبين بعد وسطه لم يحس بتحديبه، ولذلك يدرك البصر الكرة والأجسام المحدبة من البعد المتفاوت مسطحة، ولذلك يظهر جرم الشمس وجرم القمر كأنهما سطحان وهما مع ذلك كريان لتفاوت أبعادهما عن البصر. وإذا كانت المبصرات على بعد معتدل وكانت كرية أو محدبة أدرك البصر اختلاف أبعاد أجزائها وأحس بانعطافات سطوحها. وإذا أدرك البصر اختلاف أبعاد أجزاء المبصر وأدرك انعطافات سطحه أدرك تحديبه وكريته إن كان كرياً وأدرك تجسمه. وكذلك حال الأجسام المقعرة إذا كانت على بعد متفاوت. فليس يدرك البصر تقعيرها لأنه لا يدرك التفاوت الذي بين أبعاد أطرافها وبين بعد وسطها. وإذا كانت على أبعاد معتدلة أدرك البصر ذلك التفاوت وأدرك تقعيرها.
العظم وقد يعرض الغلط في أعظم المبصر أيضاً من أجل تفاوت البعد. وذلك أن البصر إذا أدرك مبصراً من المبصرات من بعد متفاوت فإنه يدرك مقداره أصغر من مقداره الحقيقي، والعظم إنما يدرك بالقياس، فيكون هذا الغلط غلطاً في القياس. وعلة هذا الغلط إنما هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر إذا كان على بعد معتدل فإن البصر يدرك عظمه على ما هو عليه ولا يعرض له الغلط في مقداره، إذا كانت جميع المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال.
فأما لم إذا كان بعد المبصر بعداً متفاوتاً أدرك البصر مقدار ذلك المبصر أصغر من مقداره الحقيقي، فإن ذلك لأن عظم المبصر إنما يدركه البصر من قياسه عظم المبصر بزاوية المخروط الذي بذلك المبصر ومقدار بعد ذلك المبصر. وقد تبين في كيفية إدراك العظم أن ذلك كذلك. وإذا كان المبصر على بعد متفاوت في العظم فإن زاوية المخروط المحيطة به تكون في غاية الصغر. والبعد المتفاوت الذي يظهر منه مقدار المبصر أصغر من مقداره الحقيقي هو البعد الذي يخفى منه مقدار له نسبة مقتدرة إلى جملة المبصر. لأن البعد الذي لا يخفى منه مقدار مقتدر النسبة إلى المبصر هو من الأبعاد المعتدلة التي يدرك منها المبصر على ما هو عليه. وإذا كان ذلك كذلك فالجزء من الزاوية الذي يوتره الجزء من المبصر المقتدر النسبة إلى جملة المبصر الذي يخفى مثله من ذلك البعد والجزء من سطح العضو الحاس الذي تحصل فيه صورة ذلك الجزء من المبصر ويوتر ذلك الجزء من الزاوية ليس يدركه الحس في تلك الحال. ومع ذلك فإن نسبة هذه الزاوية إلى جملة الزاوية التي يوترها جملة المبصر نسبة مقتدرة. وكذلك نسبة الجزء من سطح البصر الذي يوتر هذه الزاوية إلى جملة الجزء من سطح البصر الذي تحصل فيه صورة جملة المبصر نسبة مقتدرة، لأنها كنسبة الجزء الذي يخفي مثله من ذلك البعد إلى جملة ذلك المبصر التي هي نسبة مقتدرة. وكل مبصر متفاوت البعد فإن الجزء من سطح العضو الحاس والجزء من الزاوية الذي يوتره الجزء من المبصر المقتدر النسبة إلى جملة المبصر، الذي يخفي مثله من ذلك البعد، ليس يدركه الحس. فإذا تأمل البصر ذلك المبصر وحرك السهم على أقطاره فإن الحاس ليس يحس بحركة السهم إلا بعد أن يقطع من الجزء الذي حصل فيه الصورة لجملة المبصر جزءاً أعظم من الجزء الذي تحصل فيه صورة الجزء من المبصر الذي يخفي مثله من ذلك البعد. فإذا قطع السهم من الجزء الذي تحصل فيه صورة المبصر الجزء الذي يخفي مثله من ذلك البعد، فليس يحس الحاس بحركة السهم، وليس يحس الحاس من حركة السهم على الجزء من المبصر الذي يخفي مثله من ذلك البعد بصورة ولا زاوية.
وكذلك إذا تحرك السهم على جميع المبصر فإنه كلما قطع منه جزءاً يخفى مثله من ذلك البعد فإن الحاس لا يحس بحركته، فإذا قطع منه جزءاً أعظم من ذلك الجزء أحس بحركته، فإذا انتهى السهم إلى أجزاء المبصر وقطع جميع الجزء من سطح العضو الحاس الذي حصل فيه صورة المبصر فإنه يدرك مقدار ذلك الجزء أصغر من مقداره الحقيقي من أجل ما تقدم تفصيله.
وأيضاً فإنه إذا ثبت البصر في مقابلة ذلك المبصر، وأدرك الحاس الجزء من سطح البصر الذي تحصل فيه صورة ذلك المبصر، فإن الحاس يدرك مقدار ذلك الجزء ومقدار الزاوية التي يوترها ذلك الجزء من إدراكه المسافة التي بين نهايتي عرض ذلك الجزء من سطح البصر. والمسافة التي بين نهايتي عرض ذلك الجزء من سطح البصر هي في غاية الصغر، ونهايتا تلك المسافة التي يدركها الحس ليس هما نقطتان متوهمتين لأن النقطة المتوهمة لا يدركها الحس وليس يدرك الحس إلا ما كان ذا مقدار، فالنهاية التي بها يحد الحس عرض ذلك الجز من عرض ذلك الجزء. وذلك الجزء هو النهاية هو نقطة في الحس ليس لها مقدار يعتد به الحس، وهي مع ذلك ذات مقدار له نسبة مقتدرة إلى المسافة التي هي عرض الجزء الذي حصلت فيه صورة المبصر، فالنهاية التي يحد الحاس الجزء الذي تحصل فيه صورة المبصر المتفاوت البعد الذي ليس يعتد الحاس بمقدارها لها نسبة مقتدرة إلى عرض ذلك الجزء الذي فيه تحصل صورة المبصر، لأن ذلك الجزء في غاية الصغر، وإنما يزيد عرض ذلك الجزء على النقطة المحسوسة التي هي النهاية بمقدار يسير. فالنقطة المحسوسة التي هي نهاية عرض الجزء الذي فيه تحصل صورة المبصر المتفاوت البعد لها نسبة مقتدرة إلى عرض ذلك الجزء ومؤثرة في مقدار ذلك الجزء، ومع ذلك فهذه النقطة هي النهاية التي لا يعتد الحاس بمقدارها، فإذا أدرك البصر مقدار عرض الجزء الذي تحصل فيه صورة المبصر المتفاوت البعد فهو يدركه أصغر من مقداره الحقيقي بمقدار النقطتين اللتين هما نهايتا ذلك العرض اللتان هما جزءان مقتدرا النسبة إلى جملة ذلك العرض.
وكذلك الزاوية التي يوترها الجزء من سطح البصر الذي تحصل فيه الصورة يدرك الحاس مقدارها أصغر من مقدارها الحقيقي بالمقدار الذي توتره النقطتان اللتان هما نهايتا عرض ذلك الجزء اللتان لا يعتد الحاس بمقدارهما. ولذلك يدرك الحاس جميع أجزاء البصر التي تحصل فيها صور المبصرات ويدرك كل واحد منها بالمقدار الذي هو نقطتا نهايتي عرض ذلك الجزء، وكذلك يدرك جميع الزوايا التي توترها جميع المبصرات عند مركز البصر، إلا أن النقطتين اللتين هما نهايتا عرض الجزء الذي تحصل فيه صورة المبصر، إذا كان المبصر على بعد معتدل، يكون الجزءان من المبصر اللذان تحصل صورتاهما في تينك النقطتين ليس لهما قدر مؤثر في جملة مقدار المبصر، فليس لتينك النقطتين قدر عند جملة الجزء من سطح البصر الذي تحصل فيه صورة المبصر من البعد المعتدل، وكذلك ليس للزاويتين التين توترهما تانك النقطتان قدر عند جملة الزاوية. فإذا كان المبصر على بعد متفاوت بالقياس إلى ذلك المبصر كانت النقطتان اللتان هما نهايتا عرض الجزء الذي تحصل فيه صورة ذلك المبصر من سطح البصر لهما قدر مؤثر عند جملة الجزء الذي تحصل فيه الصورة. لأن جميع الجزء الذي تحصل فيه الصورة عند تفاوت بعد المبصر يكون قد تصاغر حتى صار في غاية الصغر، والنقطة التي هي النهاية التي هي أصغر جزء يدركه الحس من سطح البصر هي مقدار واحد بعينه ليس يتغير كبر الجزء الذي تحصل فيه الصورة أم صغر، لأنه ما كان أصغر من تلك النقطة فليس يدركه الحس. والجزء من المبصر الذي تحصل صورته في تلك النقطة من البعد المتفاوت يكون أعظم من الجزء من المبصر الذي تحصل صورته في تلك النقطة من البعد المعتدل. وإذا كان ذلك كذلك فالجزءان من المبصر اللذان تحصل صورتاهما في تينك النقطتين يكون لهما قدر مؤثر كبير النسبة إلى جملة المبصر إذا كان المبصر على بعد متفاوت، فتكون الزاويتان اللتان يوترهما ذانك الجزءان عند مركز البصر، اللتان ليس يدركهما الحس، لهما قدر مؤثر في جملة الزاوية التي يوترها جميع ذلك المبصر من البعد المتفاوت. وكل مبصر يدركه البصر من بعد متفاوت فإن الجزء من البصر الذي تحصل فيه صورة ذلك المبصر والزاوية التي يوترها ذلك المبصر عند مركز البصر يدرك الحس مقداريهما أصغر من مقداريهما الحقيقيين بمقدار مؤثر في جملة مقداريهما الذي يوجبه ذلك البعد المتفاوت.
وأيضاً فإنه قد تبين أن مقدار بعد المبصر إذا كان متيقناً وكان من الأبعاد المعتدلة بالقياس إلى ذلك المبصر كان الذي يدركه البصر من مقدار عظم ذلك المبصر متيقناً، وإذا كان مقدار بعد المبصر غير متيقن كان يدركه البصر من مقدار عظم المبصر غير متيقن. وقد تبين أيضاً أن المبصر إذا كان متفاوت العظم لا يتبين مقدار ذلك البعد كان ذلك البعد مسامتاً لأجسام مرتبة أو لم يكن مسامتاً لأجسام مرتبة.
وتبين أيضاً أن البصر إذا لم يتيقن مقدار بعد المبصر فإنه يحدس على مقدار بعد المبصر فإنه يحدس على مقدار بعده حدساً ويشبه بعده بأبعاد المبصرات المألوفة التي تشبه ذلك المبصر في مقداره وفي جملة ما يظهر من صورته التي يدركها من الأبعاد المألوفة. وإذا كان ذلك كذلك فالمبصر المتفاوت البعد يتخيل البصر مقدار بعده بالحدس أصغر من مقداره الحقيقي، لأنه يشبهه بالأبعاد المألوفة التي يدركها من المبصرات المألوفة التي توتر زوايا مثل الزاوية التي يوترها ذلك المبصر من البعد المتفاوت.
والأبعاد المألوفة التي يدرك منها المبصرات المألوفة ليس منها شيء متفاوت العظم، فالمبصر المتفاوت البعد إنما يدرك البصر مقدار بعده بالحدس أصغر من مقداره الحقيقي، فالزاوية التي يوترها المبصر إذا كان متفاوت العد يدرك البصر مقدارها أصغر من مقدارها الحقيقي، وبعد المبصر إذا كان متفاوت البعد يدرك البصر مقداره أصغر من مقداره الحقيقي. ومقدار عظم المبصر إنما يدرك من قياس العظم إلى الزاوية التي يوترها ذلك العظم عند مركز البصر مع القياس إلى مقدار بعد ذلك العظم. فالمبصر المتفاوت البعد يدرك البصر مقداره من قياس عظمه بزاوية أصغر من الزاوية الحقيقية التي يوترها ذلك المبصر من ذلك البعد وببعد أصغر من بعده الحقيقي، فلذلك يدرك البصر مقدار المبصر المتفاوت البعد أصغر من مقداره الحقيقي، وكلما ازداد مقداره في الحس صغراً لأن الغلط في الزاوية التي يوترها ذلك المبصر يتزايد كلما تزايد بعده، ومقدار التفاوت الذي بين بعده الحقيقي وبين ما يتخيله البصر من مقدار بعده المنظور يتزايد أيضاً كلما تباعد المبصر، فلذلك كلما ازداد المبصر بعداً ازداد مقداره في الحس صغراً. وإذا تمادى البصر في التباعد انتهى إلى الحد الذي يخفى منه عن البصر فلا يدركه البصر.
والحد من البعد الذي تخفى منه جملة المبصر فلا يدركه البصر هو الحد الذي يصير فيه الجزء من البصر الذي تحصل فيه صورة المبصر هو النقطة التي ليس لها قدر محسوس يعتد به الحاس ويدرك مقداره، فتصير صورة المبصر عند هذه الحال بمنزلة صورة المبصر الذي في غاية الصغر الذي ليس في قدرة الحس إدراكه من أجل صغر حجمه وإن كان قريباً من البصر.
وأيضاً فإن المبصر إذا تباعد بعداً متفاوتاً فإن صورة لونه تتغير وتضعف. وذلك انه قد تبين أن صورة اللون كلما بعدت عن اللون الذي عنه تصدر الصورة ضعفت، وكذلك صورة الضوء. فإن كان المبصر رقيق اللون أو سحابي اللون وكان بعده عن البصر بعداً متفاوتاً فقد يخفى عن البصر من بعد قد يدرك البصر منه مبصراً مساوياً له في العظم إذا كان مشرق اللون، من أجل أن صورة اللون الرقيق أضعف من صورة اللون القوي، فهي تخفى من بعد أقل من البعد الذي تخفى منه صورة اللون القوي.
وقد يخفى المبصر أيضاً من أجل اشتباه لونه بألوان المبصرات المجاورة والمسامتة له. وذلك ان المبصرات التي على وجه الأرض ليس يخلوا أن يكون وراءها أو تحتها أو حولها أجسام أخر، والبصر يدرك الأجسام التي حول المبصر ووراءه وتحته ومسامتاً له عند إدراك ذلك المبصر، فإذا كان لون المبصر شبيهاً بألوان تلك المبصرات وكان بعده مع ذلك بعداً متفاوتاً، فإنه ربما خفي ذلك المبصر عن البصر فلم يتميز للبصر ذلك المبصر من غيره من أجل اشتباهه بالأجسام المجاورة له والمسامتة له التي يدركها البصر معه. وذلك مثل الأجسام الترابية التي تكون على وجه الأرض والأجسام الخضر المشرقة الخضرة إذا كانت فيما بين الزروع أو في تضاعيف ورق الشجر، وكالأجسام البيض المتشابهة الأجزاء التي تكون في وسط الثلج، وكالجسم الذي يكون وراءه أو تحته أو حوله جسم أعظم جثة منه شبيهة اللون بلونه.
فإن كثيراً من المبصرات التي بهذه الصفة إذا كانت على أبعاد متفاوتة قد تخفى عن البصر ولا تتميز للبصر من الأجسام التي يدركها معها من أجل اشتباه ألوانها بألوان تلك الأجسام. وإذا كان في تلك الأجسام. وإذا كان في تلك المواضع بعينها وعلى تلك الأبعاد بأعيانها مبصرات مساوية لتلك المبصرات في أعظامها ومخالفة اللون لألوان الجسام التي في تلك المواضع فإن البصر يدرك تلك المبصرات من تلك الأبعاد بعينها. فقد يكون خفاء المبصر عن البصر من أجل اشتباه لونه بألوان ما يجاوره من الأجسام.
وقد يكون خفاء المبصر من أجل رقة لونه وضعف صورته، وما هذه حاله من المبصرات فليس يكون خفاؤه من أجل تصاغر صورته التي تحصل في البصر ولكن من اشتباه صورته بصورة ما يدرك معه من المبصرات أو من ضعف صورته. فالبعد الذي يخفى منه المبصر عن البصر من أجل تصاغر مقداره هو البعد الذي يكون المخروط المتوهم المتشكل بينه وبين مركز البصر يفصل من سطح العضو الحاس جزءاً مقداره مقدار النقطة التي لا يدرك الحس مقدارها، وهذا البعد هو أقرب الأبعاد التي يخفى منها المبصر عن البصر من أجل تصاغر صورته. ثم كلما زاد على البعد من الأبعاد فهو من الأبعاد التي يخفى منها ذلك المبصر عن البصر، ويكون المخروط الذي يخرج إليه من مركز البصر يفصل من سطح العضو الحاس جزءاً أصغر من الجزء الأول الذي يفصله من البعد القرب الذي لا يدركه الحس من أجل صغره.
وقد يعرض الغلط أيضاً في عظم بعض المبصرات مع تيقن مقدار بعد ذلك المبصر. وذلك يكون في المبصرات الصغار المتفاوتة الصغر. فإن المبصر الذي في غاية الصغر قد يخفى من بعد ليس بالمتفاوت العظم إذا كان بعداً خارجاً عن الاعتدال بالقياس إلى مقدار ذلك المبصر. وقد يكون البعد الذي يخفى منه المبصر الذي في غاية الصغر مسامتاً لأجسام مرتبة متصلة، وإذا لم يكن البعد متفاوت العظم وكان مع ذلك مسامتاً لأجسام مرتبة متصلة فإنه قد يكون متيقن المقدار.
وإذا خفي المبصر من بعد ما من أجل مقداره فإنه من بعد قبل ذاك البعد قد يدرك البصر مقداره أصغر من مقداره الحقيقي، لأن المبصر إذا تباعد عن البصر وتمادى في التباعد فإنه يتصاغر أولاً في الحس ثم يخفى إذا كان خفاؤه من جهة مقداره. فقد يدرك البصر مقدار المبصر الذي في غاية الصغر أصغر من مقداره الحقيقي من بعد متيقن المقدار، إلا أن البعد المتيقن الذي يخفى منه المبصر والبعد الذي يدرك منه مقدار المبصر أصغر من مقداره الحقيقي هو بعد خارج عن الاعتدال بالقياس إلى ذلك المبصر. وإذا كان البعد خارجاً عن الاعتدال بالقياس إلى المبصر وكانت جملة المبصر تظهر من ذلك البعد فإنه قد يخفى من ذلك البعد مقدار له نسبة مقتدرة إلى جملة ذلك المبصر.
وأيضاً فإن البعد الذي يدرك منه البصر مقدار المبصر الصغير المقدار أصغر من مقداره قد يخفى منه مقدار أصغر من ذلك المبصر من المبصرات التي قد يدركها البصر من بعد أقرب من ذلك البعد، لأن المبصر الذي يتصاغر مقداره عند البصر ليس هو أصغر المقادير التي يدركها البصر. والمبصر الذي يخفى من ذلك البعد إذا كان البصر يدركه من بعد أقرب من ذلك البعد فإن له نسبة مقتدرة إلى مقدار المبصر الصغير الذي يتصاغر مقداره من ذلك البعد، لأن المبصر الذي يدركه البصر من بعد ما على تصاريف الأحوال له نسبة مقتدرة إلى كل مبصر متفاوت الصغر.
فالبعد الذي يدرك منه البصر مقدار المبصر المتفاوت الصغر أصغر من مقداره الحقيقي قد يخفى منه مقدار له نسبة مقتدرة إلى جملة ذلك المبصر. كذلك فالزاوية التي يوترها المبصر الصغير المقدار من البعد الخارج عن الاعتدال بالقياس إلى ذلك المبصر يدرك الحاس مقدارها أصغر من مقدارها الحقيقي كما تبين ذلك من قبل. وإذا كان ذلك البعد متيقن المقدار فالمبصر الصغير المقدار المتفاوت الصغر الذي تخفى جملته من بعد متيقن المقدار قد يدرك البصر مقداره أصغر من مقداره الحقيقي من بعد متيقن المقدار من أجل غلط البصر في مقدار عظم الزاوية التي يوترها ذلك المبصر الصغير المقدار من ذلك البعد. فهو يدرك مقداره من قياس مقداره بزاوية أصغر من الزاوية الحقيقية التي يوترها ذلك المبصر من ذلك البعد وببعده المتيقن المقدار. فالغلط الذي يعرض للبصر في إدراك عظم المبصر من البعد المتفاوت الذي لا يتحقق البصر مقداره إنما هو من أجل غلطه في مقدار الزاوية التي يوترها ذلك المبصر ومن غلطه في كمية بعد ذلك المبصر معاً. فهو يشبه عظمه بعظم مبصر على بعد معتدل يوتر زاوية أصغر من الزاوية التي يوترها ذلك المبصر في تلك الحال.
فلذلك يدرك مقدار المبصر المتفاوت البعد أصغر من مقداره الحقيقي. والغلط الذي يعرض للبصر في عظم المبصر من البعد المتيقن المقدار إنما هو من أجل غلط البصر في مقدار الزاوية التي يوترها ذلك المبصر في تلك الحال فقط. فقد تبينت العلة التي من أجلها يظهر مقدار المبصر من البعد المتفاوت الخارج عن الاعتدال بالقياس إلى عظم المبصر أصغر من مقداره الحقيقي.
وأيضاً فإن المبصر إذا قرب من البصر قرباً شديداً خارجاً عن الاعتدال فإن البصر يدرك مقداره أعظم من مقداره الحقيقي، فيكون غالطاً في مقداره، ويكون غلطه في القياس، لأن العظم ليس يدرك إلا بالقياس، وتكون علة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لن المبصر الذي يدرك البصر مقداره من القرب الشديد أعظم من مقداره الحقيقي إذا كان على بعد معتدل فإنه يدرك مقداره على ما هو عليه إذا كانت جميع المعاني الباقية التي في ذلك المبصر في عرض الاعتدال.
فأما لم يدرك البصر المبصر من القرب الشديد أعظم من مقداره الحقيقي فإن ذلك لأن البصر إنما يدرك مقدار عظم المبصر من قياس العظم بزاوية المخروط الذي يحيط بذلك المبصر مع القياس بالبعد الذي بين البصر وبين ذلك المبصر. وإذا كان المبصر شديد القرب من البصر فإن زاوية المخروط المحيط به تكون عظيمة المقدار، ويكون البعد الذي إليه تقيس القوة المميزة مقدار المبصر ومن القياس إليه تدرك مقدار المبصر هو بعد المبصر عن سطح البصر، لأن مقدار البعد إنما يدركه البصر من إدراكه الأجسام المرتبة التي تسامت البعد، والبعد الذي تسامته الأجسام المرتبة الذي يدركه البصر دائماً ويقدره دائماً هو بعد المبصر عن سطح البصر. والبعد الذي بالقياس إليه يدرك مقدار المبصر على حقيقته هو البعد الذي بين المبصر ومركز البصر. فبين البعد الذي إليه تقيس القوة المميزة عظم المبصر وبين البعد الذي إليه يجب أن يكون القياس تفاوت مقداره هو نصف قطر كرة البصر إلا أن الأبعاد المعتدلة التي منها يدرك البصر المبصرات المألوفة وإليها تقيس القوة المميزة أبداً مقادير المبصرات ليس يؤثر في مقاديرها مقدار نصف قطر كرة البصر، فلذلك يدرك البصر مقادير المبصرات من الأبعاد المعتدلة على ما هي عليه ولا يكون بين ما يدركه البصر من مقاديرها وبين مقاديرها الحقيقية تفاوت محسوس. فإذا صار المبصر قريباً جداً من البصر صار البعد الذي بينه وبين سطح البصر يسيراً جداً، وهو الذي إليه تقيس القوة المميزة مقدار المبصر، ويصير التفاوت الذي بين هذا البعد وبين البعد الذي إليه يجب أن يكون القياس، الذي هو مقدار نصف قطر كرة البصر، تفاوتاً له قدر مؤثر، لأن المبصر إذا كان قريباً جداً من البصر، وأدرك البصر مقداره أعظم من مقداره الحقيقي، فقد يكون بعده عن سطح البصر مثل نصف قطر كرة البصر، وربما كان بعده عن سطح البصر أقل من هذا القدر. وإن كان بعده الذي يظهر منه يظهر مقداره أعظم مما هو أكبر من نصف قطر كرة البصر بمقدار يسير البعد الذي يجب أن يكون القياس إليه مساوياً للبعد الذي إليه يقع القياس أو أعظم منه أو عظيم النسبة إليه، فيكون إدراك مقدار المبصر إذا كان شديد القرب من البصر من قياس مقدار المبصر بزاوية المخروط المحيط بذلك المبصر، وهي زاوية عظيمة، ومن القياس إلى بعد هو أصغر من البعد الذي يجب أن يكون القياس إليه بمقدار هو مثل البعد الذي إليه يقع القياس أو أعظم منه أو عظيم النسبة إليه.
فلذلك يدرك البصر مقدار المبصر إذا كان شديد القرب من البصر أعظم من مقداره الحقيقي. وكلما زاد المبصر قرباً من البصر كان التفاوت الذي بين بعده الذي إليه يقع القياس وبين البعد الذي يجب أن يكون القياس إليه أعظم قدراً. فلذلك كلما ازداد المبصر قرباً من البصر ازداد مقداره في الحس عظماً. فقد تبينت العلة التي من أجلها يدرك البصر مقدار المبصر إذا كان شديد القرب من البصر أعظم من مقداره الحقيقي، وكلما ازداد المبصر قرباً من البصر ازداد مقداره في الحس عظماً.
التفرق وقد يعرض الغلط في التفرق من أجل تفاوت البعد. وذلك أنه إذا كان جسم فسيح الأقطار، وكان مختلف الألوان، وكان واحد من تلك الألوان يقسم سطح ذلك الجسم في مواضع متفرقة أو في موضع واحد، فيعرض من ذلك أن ينقسم سطح ذلك الجسم بذلك اللون في موضع أو في مواضع متفرقة، ويكون اللون الذي يقطع سطح ذلك الجسم من الألوان المظلمة، ويكون الموضع الذي فيه هذا اللون من سطح الجسم ذا عرض مقتدر، فإن البصر إذا أدرك الجسم الذي بهذه الصفة من بعد متفاوت وأدرك اللون المظلم الذي يقطعه، فإنه يظهر للبصر أنه عدة أجسام متفرقة متجاورة، إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بذلك الجسم، وظن بذلك اللون المظلم أنه تفرق بين تلك الأجسام، فيدرك الجسم المتصل متفرقاً. ومن الأجسام التي بهذه الصفة التي يعرض فيها مثل هذا الغلط هي الجدران التي يكون في تضاعيفها أو في وجوهها أخشاب قائمة إذا كان البصر يدركها من بعد متفاوت.
وكذلك إذا كان جسم فسيح الأقطار مسفر اللون وأشرق عليه ضوء الشمس ووقعت مع ذلك عليه أظلال متفرقة تقطع سطح ذلك الجسم، أو ظل واحد يقطعه، وأدرك البصر الجسم الذي بهذه الصفة من بعد متفاوت ولم يكن قد تقدم علم الناظر بذلك الجسم ولم يحس في الحال بالأجسام التي منها تلك الأظلال، فإن البصر يدرك الجسم الذي بهذه الصفة من بعد متفاوت كأنه أجسام متفرقة متجاورة إذا لم يحس بأن المواضع المنكسفة اللون هي أظلال.
وهذا الغلط أيضاً هو غلط في القياس لن التفرق إنما يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لن المبصر المتصل إذا كان على بعد معتدل فإن البصر يدركه متصلاً، وإن كان مختلف الألوان وكان عليه أظلال أو كانت فيه أخشاب، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر في عرض الاعتدال.
الاتصال وقد يعرض الغلط في الاتصال أيضاً من أجل تفاوت البعد. وذلك أنه إذا كانت مبصرات متشابهة اللون متفرقة وكان عرض التفرق الذي بينها يسيراً، أو كانت متماسة، وأدركها البصر من بعد متفاوت، فإن البصر يدرك المبصرات التي بهذه الصفة جسماً متصلاً إذا لم يكن قد تقدم العلم بتلك الأجسام. وذلك لأن التفرق اليسير والتماس الذي بين المبصرات قد يخفى من البعد البعيد الذي يدرك منه كل واحد من تلك المبصرات إذا كانت تلك المبصرات أفسح أقطاراً من عرض التفرق، وإذا خفي التفرق الذي بين الأجسام أدرك البصر تلك الأجسام متصلة كأنها جسم واحد.
ومن المبصرات التي بهذه الصفة الستر التي ربما عملت على رؤوس الحيطان من الألواح الخشب التي يقترن بعضها ببعض. فإن الألواح التي بهذه الصفة إذا أدركها البصر من بعد متفاوت، ولم يظهر الضوء من مواضع فصولها، فإنه يدركها كأنها جسم واحد متصل ولا يحس بمواضع فصولها. وكذلك الأسرة التي تتخذ من الألواح الخشب، إذا كان السرير من ألواح مقترن بعضها ببعض، فإن البصر إذا أدرك السرير الذي بهذه الصفة من بعد متفاوت فإنه يدركه كأنه جسم واحد متصل ولا يحس بمواضع الفصول التي بين تلك الألواح. وكذلك كلما جرى هذا المجرى من الأجسام المتضامنة المتشابهة الألوان التي تكون فصولها ضيقة إذا أدركها البصر من بعد متفاوت.
وإذا أدرك البصر الأجسام المتفرقة جسماً واحداً متصلاً فهو غالط فيما يدركه من اتصالها، ويكون هذا الغلط غلطاً في القياس لن الاتصال يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا كانت على أبعاد معتدلة فإن البصر يدرك التفريق والتماس الذي بين تلك المبصرات، ويدرك كل واحد من تلك المبصرات على ما هو عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
قد يعرض للبصر من غلطه في التفريق وفي الاتصال أن يكون مع ذلك غالطاً في العدد أيضاً. فإنه إذا أدرك المبصرات المتفرقة الكثيرة واحداً، وأدرك المبصر الواحد المتصل كثيراً متفرقاً، فهو غالط في العدد.
الحركة وقد يعرض الغلط في الحركة أيضاً من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا كان ينظر إلى القمر أو إلى كوكب من الكواكب، ثم تحرك الناظر على وجه الأرض وهو في حال حركته ناظر إلى القمر أو الكوكب، فإنه يرى القمر أو الكوكب سائراً معه. وإذا وقف الناظر في موضعه، ونظر إلى القمر أو الكوكب، فإنه يدرك القمر والكوكب في زمان له قدر محسوس ساكناً لا يتحرك. فيكون الناظر المتحرك إذا أدرك القمر والكوكب متحركاً بحركته غالطاً فيما يدركه من حركته، ويكون هذا الغلط غلطاً في القياس، لأن الحركة تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر الساكن والمبصر المتحرك حركة بطيئة، إذا كان على بعد معتدل، وكان الناظر الذي ينظر إليه متحركاً، فليس يدركه متحركاً بحركته بل يدرك الساكن ساكناً، ويدرك حركة المتحرك البطيء الحركة على ما هي عليه، ويدرك أنه غير متحرك بحركته إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر في عرض الاعتدال.
فأما لم يدرك البصر القمر والكواكب متحركة بحركته فإن ذلك لأن المسافة التي يقطعها الناظر المتحرك من سطح الأرض في الزمان اليسير ليس لها قدر محسوس عند بعد القمر والكواكب عند البصر وعند جسم الناظر في الزمان الذي يقطع فيه الناظر المتحرك المسافة التي فيها يدرك القمر أو الكواكب متحركاً. وإذا لم يتغير وضع المبصر عند البصر وعند جسم الناظر، وكان الناظر مع ذلك متحركاً، فإن الناظر إذا وجد وضع المبصر منه في الحال الثانية شبيهاً بوضعه منه في الحال الأولى، ووجد المبصر مسامتاً له على مثل ما كانت مسامتته له، وكان الناظر يحس أنه قد انتقل عن الموضع الأول الذي كان فيه. فإنه يدرك ذلك المبصر منتقلاً بانتقاله، لأن البصر ليس يدرك مبصراً من المبصرات المألوفة ويدرك وضعه منه وضعاً واحداً لا يتغير ويكون الناظر مع ذلك متحركاً إلا إذا كان ذلك المبصر متحركاً حركة مساوية لحركة الناظر إليه وفي الجهة التي يتحرك إليها الناظر. فلذلك إذا كان الناظر متحركاً، وكان مع ذلك ينظر إلى القمر أو إلى كوكب من الكواكب، أدرك القمر والكوكب كأنهما متحركان معه حركة مساوية لحركته. وكذلك أيضاً الغلط في حركة القمر إذا أدركه الناظر من وراء السحاب الرقيق، فإنه يظن القمر متحركاً حركة سريعة، وتكون علة غلطه هو تفاوت بعده، ويكون طريق غلطه هو قياس القمر إلى أجزاء السحاب. وقد ذكرنا هذا المعنى من قبل.
السكون وقد يعرض الغلط في السكون أيضاً من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، وهو ان المبصر إذا كان يتحرك حركة بطيئة، وكان البصر يدركه من بعد متفاوت، ولم يطل البصر النظر إلى ذلك المبصر، وكان ذلك البصر ربما لم يدرك حركة ذلك المبصر، وإذا لم يدرك البصر حركة المبصر فإنه يظنه ساكناً. وكذلك صار البصر إذا نظر إلى الكواكب أدركها في الحال ساكنة ولم يحس بحركتها مع سرعة حركتها. وهذا الغلط هو غلط في القياس لأن البصر إنما يدرك السكون بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر إذا كان على بعد معتدل، وكان متحركاً حركة مساوية لحركة الكوكب، فإن البصر يدرك حركته في الزمان الذي تخفى فيه حركته من البعد المتفاوت الذي يدركه فيه ساكناً.
فأما لم صار البصر يدرك المتحرك من البعد المتفاوت إذا لم يطل النظر إليه ساكناً فإن ذلك لأن المبصر إذا كان على ب متفاوت مسرف التفاوت فإنه يقطع في زمان محسوس مسافة غير محسوسة بالقياس إلى ذلك البعد على أي صفة كانت حركته، مستقيمة كانت حركته أو مستديرة، أعني أنه قد يقطع في زمان محسوس مسافة لا يدركها البصر من ذلك البعد. والبصر إنما يدرك المبصر ساكناً إذا أدركه في زمان محسوس على وضع واحد بالقياس إلى البصر أو إلى جسم من الأجسام. وإذا كان المبصر يتحرك ويقطع في زمان محسوس مسافة غير محسوسة من البعد المتفاوت، فإن البصر إذا نظر إلى المبصر الذي بهذه الصفة من ذلك البعد المتفاوت ولم يثبت في مقابلته إلا زماناً يسيراً فإن المبصر في ذلك القدر من الزمان قد يقطع مسافة غير محسوسة بالقياس إلى ذلك البعد. وإذا كان المبصر يقطع في ذلك القدر من الزمان مسافة غير محسوسة بالقياس إلى ذلك البعد، كان البصر يدرك ذلك المبصر من ذلك البعد في ذلك القدر من الزمان على وضع واحد بالقياس إلى البصر نفسه ويظن أنه لم يتغير وضعه، وإذا أدرك البصر المبصر على وضع واحد زماناً محسوساً فهو يدركه ساكناً، فلهذه العلة صار البصر يدرك المبصر المتحرك من البعد المتفاوت ساكناً إذا لم يطل النظر إليه.
وقد يعرض الغلط في السكون أيضاً على وجه آخر. وذلك إذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات من بعد متفاوت وكان ذلك المبصر متحركاً حركة على الاستقامة في سمت المسافة الممتدة بين البصر وذلك المبصر الموازية لخطوط الشعاع الممتدة إلى ذلك المبصر، ولم تكن حركة في غاية السرعة، فإن البصر إذا أدرك المبصر الذي على هذه الصفة فإنه يدركه في الحال ساكناً ولا يحس بحركته إن كانت حركته في جهة التباعد أو إن كانت في جهة التقارب. وذلك لأن البصر إنما يدرك الحركة المستقيمة إذا أدرك المتحرك يسامت جسماً من الأجسام وأدركه يسامت من ذلك الجسم جزءاً بعد جزء، أو يدركه يسامت أجساماً مختلفة جسماً بعد جسم، أو يدرك المسافة التي يقطعها المتحرك في حال إحساسه بالحركة. لأنه إذا أدرك المسافة التي يقطعها المتحرك فقد أدرك المتحرك مسامتاً للجزء من الجسم المسامت لأول المسافة ثم أدركه مسامتاً للجزء من ذلك الجسم المسامت لآخر تلك المسافة. فعلى هذه الوجوه يدرك الحركة.
وإذا كان المتحرك على بعد متفاوت، وكانت حركته على سمت الشعاع الممتد إليه من البصر، وأدركه البصر زماناً يسيراً، فإن البصر لا يدرك المسافة التي قطعها ذلك المتحرك في ذلك القدر من الزمان. لن البصر يدرك المتحرك الذي على هذه الصفة على سمت واحد وعلى وضع واحد إذا كان متحركاً على سمت خطوط الشعاع الممتدة إليه من البصر. وإذا كان المتحرك الذي بهذه الصفة متحركاً على وجه الأرض فإن البصر لا يدرك المسافة التي تحرك عليها لتفاوت البعد. وليس يدرك البصر حركة المتحرك الذي بهذه الصفة إلا إذا أحس بأنه قد قرب أو قد بعد. وليس يحس ببعده وقربه من البعد المتفاوت إلا إذا قطع مسافة مقتدرة، لأنه إن كانت حركته في جهة التباعد فليس يحس بحركته إلا إذا تصاغر مقداره أو أدرك المسافة التي قطعها، وإن كانت حركته في جهة التقارب فليس يحس بحكته إلا إذا عظم مقداره أو أدرك المسافة التي قطعها. وليس يتصاغر مقدار المبصر بعد أن أدركه البصر من البعد المتفاوت ولا يتعاظم إلا إذا قطع مسافة مقتدرة. ولا يدرك البصر أيضاً المسافة التي يقطعها المبصر المتفاوت البعد إلا إذا كانت مقتدرة.
فإذا أدرك البصر المبصر الذي على هذه الصفة، ولم يثبت في مقابلته إلا زماناً يسيراً، ولم تكن حركته شديدة السرعة، فليس يحس البصر بحركته لأنه ليس يقطع في الزمان اليسير مسافة مقتدرة يصح أن يدركها البصر من البعد المتفاوت أو يتصاغر أو يتعاظم.
وإذا لم يحس البصر بحركة المبصر فإنه يظنه ساكناً، وإذا أدرك البصر المبصر المتحرك ساكناً فهو غالط في سكونه، ويكون غلطاً في القياس لأن السكون ليس يدرك إلا بقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال لن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان على بعد معتدل، وكان على وجه الأرض أو مسامتاً لجسام مرتبة، فإن البصر يدرك وجه الأرض، ويدرك الأجسام المرتبة التي تسامت بعده، ويدرك المسافة التي يقطعها ذلك البصر المتحرك في الزمان اليسير الذي يدرك في مثله الحركات، إذا لم تكن حركته في غاية البطء، ويدرك حركته على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال.
الخشونة وقد يعرض الغلط في الخشونة أيضاً من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك يكون كثيراً في التزاويق. فإن المزوقين يشبهون ما يزوقونه من الصور والتزاويق بأمثالها من الأجسام المشاهدة، وقد يتأتون لتشبيه الحيوانات والأشخاص المعينة والنبات والآلات وسائر المبصرات المجسمة وسائر المعاني التي فيها بالصور المسطحة وفطنوا لمواضع التشبيه فهم يتلطفون في ذلك بالأصباغ والنقوش، فإذا صوروا صور الحيوانات ذوات الشعر والجشر والنبات ذوات الزغب والأوراق الخشنة السطوح والجمادات الخشنة الظاهرة الخشونة فهم يشبهونها بالنقوش والتخاطيط واختلاف الأصباغ بما يظهر من خشونة سطوح تلك الحيوانات وذلك النبات وتلك الجمادات، وتكون الصور التي يعملونها مع ذلك مسطحة ملساً وصقيلة أيضاً. وكذلك يصورون أشخاص الناس ويشبهون تخاطيط وجوههم وأجسامهم وما فيها من الشعر والمسام والغضون وتكاسير ملابسهم بما يظهر للحس من صور أشخاص الناس وخشونة ما يظهر من أبشارهم بالشعر والمسام وتكاسير لباسهم. والبصر يدرك الصور المصورة شبيهة بصورها التي هي شبيهة بها كان مزوقها حذاقاً بصناعة التزاويق.
فإذا أدرك البصر صورة مصورة على حائط أو على خشب أو على قرطاس، وكانت تلك الصورة من صور الحيوانات ذوات الشعر والجشر، فإن البصر يدرك الشعر منها كأنه شعر والجشر منها كأنه جشر. وكذلك إذا أدرك البصر صور النبات الخشنة الأوراق فإنه يدركها كأنها خشنة، وكذلك يدرك صور الجمادات الظاهرة الخشونة، وكذلك يدرك صور أشخاص الناس المصورة كأنها صور مجسمة، وكان ما فيها من صور الشعر المتفرق شعر وما فيها من الغضون كأنه غضون وما في تكاسير اللباس التي على الصور المصورة كأنها تكاسير الثياب التي يلبسها الناس مع ملاسة سطوح تلك الصور وصقالها.
وإذا أدرك البصر الصورة الملساء خشنة فهو غالط في خشونتها، وهذا الغلط هو غلط في القياس لأن الخشونة إنما تدرك بالقياس. وهذا الغلط قد يكون لعلة من العلل التي من اجلها يعرض للبصر الغلط. فمنها ما تكون علته هو بعد الصورة عن البصر، وذلك أن الصورة المصورة التي بهذه الصفة ليس يتحقق البصر ملاستها إلا بالتأمل، وليس يتمكن البصر من تأملها إلا إذا كانت قريبة من البصر شديدة القرب منه، لأنه ليس يظهر تطامن سطح المبصر وملاسته بالتأمل إلا من تأمل أجزاءه التي في غاية الصغر، والأجزاء التي في غاية الصغر ليس يدركها البصر إلا من القرب الشديد. وإذا كانت الصورة على بعد ليس يدرك منه البصر وضع الأجزاء التي في غاية الصغر التي يظنها من ذلك البعد أنها شاخصة ومختلفة الوضع، ولا يدرك استواء وضع جميع أجزاء السطح، فليس يدرك ملاسة سطح تلك الصورة.
وأيضاً فإن الخشونة التي تظهر للبصر في سطوح الصور المصورة قد تظهر من بعد ليس في غاية القرب، وليس يدرك البصر ملاسة سطوح الصور المصورة الشبيهة بالمبصرات الخشنة السطوح من صورة الضوء الذي يظهر في سطوحها التي يعرفها البصر في سطوح المبصرات الملس إذا لم يتقدم العلم بملاسة سطوح تلك الصور، لأن صور سطوح هذه الصور المصورة التي تظهر للبصر خشنة هي أشبه بصور السطوح الخشنة من صورة الضوء التي فيها بصور الأضواء التي في السطوح الملس لما قد تلطف في المزوقون من شدة تشبيهها بالسطوح الخشنة. فليس يدرك البصر ملاسة ما هذه صفته من الصور المصورة إلا بالتأمل المحقق. وليس يتمكن البصر من تأمل سطوح هذه الصور ويتحقق ملاستها إلا بالقرب الشديد. فإذا أدرك البصر صورة من هذه الصور من بعد مقتدر ليس في غاية القرب من البصر فهو يدركها خشنة السطح ولا يدرك ملاستها في الحال. والبعد المعتدل الذي منه يدرك البصر ملاسة الصور التي بهذه الصفة هو البعد اليسير الذي يظهر منه للبصر بالتأمل حقيقة ملاستها.
وقد يظهر صقال هذه الصور إذا كانت صقيلة من البعد المقتدر الذي تظهر منه خشونتها الغليظة، وذلك إذا كان وضع سطح الصورة الوضع الذي ينعكس منه الضوء إلى البصر، الذي هو لمعان الصقال. إلا أن سطوح الأجسام قد يجتمع فيها الصقال والخشونة معاً، إذا كانت أجزاؤها مختلفة الوضع، وكانت سطوح الأجزاء المختلفة الوضع صقيلة، وكانت الأجزاء الصقيلة متراصة ومتكاثفة كالشعر والأصداف وما جرى مجراها، فيكون السطح بجملته خشناً ويكون كل واحد من أجزائه المختلفة الوضع صقيلاً. وما هذه حاله من السطوح إذا انعكس الضوء عنها إلى البصر، أدرك البصر صقالها مع اختلاف وضع الأجزاء. وكثيراً ما يظهر الصقال في سطوح الأجسام المشعرة والتي فيها أجزاء مختلفة الوضع وتشتبه في الحال على البصر أنها مشعرة أو أجزاؤها مختلفة الوضع.
وإذا كان ذلك كذلك فليس يتحقق البصر ملاسة السطح إذا أدرك صقاله من بعد مقتدر معهما قد تقرر في النفس أن الصقال قد يجتمع مع الخشونة، فليس يتحقق البصر ملاسة ما هذه حاله من السطوح إلا من القرب الشديد. والصور المصورة المشبهة بالمبصرات الخشنة السطوح التي تظهر خشونتها من البعد المقتدر ليس يدرك البصر ملاستها وصقالها إلا من القرب الشديد، وهو بعدها المعتدل الذي تدرك منه ملاستها. والبعد المقتدر الذي يدرك منه خشونتها الغليظة هو بعد خارج عن الاعتدال بالقياس إلى تلك الصورة.
فالغلط الذي يعرض للبصر فيما يدركه من خشونة سطوح الصور المصورة التي يشبهها المزوقون بالمبصرات الخشنة السطوح مع ملاسة سطوحها، إذا كانت على أبعاد مقتدرة ولم تكن شديدة القرب من البصر، إنما هو من أجل خروج بعد تلك الصور عن عرض الاعتدال الذي منه يدرك البصر ملاسة تلك الصور، الذي هو المسافة القريبة من البصر، لأن تلك الصور إذا كانت قريبة من البصر الذي هو بهدها المعتدل الذي يدرك منه ملاستها، أدرك البصر ملاستها على ما هي عليه ولم يدركها خشنة ولم يعرض له الغلط في خشونتها إذا كانت المعاني الباقية التي فيها في عرض الاعتدال.
الملاسة وقد يعرض الغلط في الملاسة أيضاً من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك ان المبصر الذي فيه خشونة يسيرة إذا كان على بعد متفاوت فليس يظهر للبصر خشونته وإن لم يكن البعد مسرف التفاوت. وذلك لأن الخشونة إنما يدركها البصر من إدراكه لاختلاف وضع أجزاء سطح المبصر، أو من إدراك اختلاف صورة الضوء الذي يكون في سطح المبصر. وإذا كانت الخشونة يسيرة فإن أجزاء سطح المبصر المختلفة الوضع تكون في غاية الصغر.
وإذا كانت في غاية الصغر لم تتميز للبصر، ولم يتميز اختلاف أوضاعها للبصر من البعد المتفاوت، وإن لم يكن مسرف التفاوت. وإذا كانت الخشونة يسيرة فإن الاختلاف الذي في صورة الضوء يسيراً لم يظهر ذلك الاختلاف من البعد المتفاوت، ولم يفرق البصر بين الضوء الذي في ذلك السطح وبين صورة الضوء الذي يكون في السطح الأملس من البعد المتفاوت. وإذا لم يدرك البصر اختلاف أوضاع أجزاء المبصر، ولم يدرك اختلاف صورة الضوء الذي في سطح المبصر، لم يدرك خشونة المبصر، فهو يدرك ذلك المبصر كما يدرك الأجسام الملس التي سطوحها متشابهة الوضع، ولا يفرق بين السطح الخشن وبين السطح الأملس. فإذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات الخشنة السطوح من البعد المتفاوت فليس يدرك الخشونة التي فيها. وإذا لم يدرك الخشونة التي في سطح المبصر، ولم يكن بعد المبصر من الأبعاد المسرفة التفاوت، فهو يشبه صورته بصورة أمثاله من المبصرات الملس ويظنه أملس إذا لم يتقدم علم الناظر بخشونة ذلك المبصر.
وإذا ظن البصر بالخشن أنه أملس فهو غالط في ملاسته. والغلط في الملاسة هو غلط في القياس لن الملاسة إنما تدرك بالقياس. وعلة هذا الضغط هو خروج بعد لمبصر عن عرض الاعتدال، لن المبصرات التي في سطوحها خشنة إذا كانت على أبعاد معتدلة بالقياس إلى تلك المبصرات فإن البصر يدرك خشونتها ولا يدركها ملساً إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.